المشاركات الشائعة

الأربعاء، 13 مايو 2020

تعمريات - في ذكرى أستاذنا الفاضل الدكتور محمد حسن البانوبي

تعمريات-في ذكرى أستاذنا الفاضل دكتور محمد حسن البانوبي

في ذكرى أستاذنا الفاضل الدكتور محمد حسن البانوبي رحمة الله عليه – "حمامة السلام".

توفي لرحمة الله أستاذنا الفاضل دكتور محمد حسن البانوبي بعد عمر حافل بالعطاء والإخلاص لطلبته ومرضاه. وددت أن تسجيل جزء من سيرته لنتعلم منها نحن والأجيال القادمة كلنا. وذلك في حدود معرفتي الشخصية به كأحد تلامذته وتلميذ لتلامذته، ومما عرفته من الزملاء بالقسم، ومما عرفته من خارج القسم.
أستاذنا الفاضل هو  من الأجيال التي تعلمت الحكمة مع الطب فكانوا أطباء وحكماء. وهو من جيل الآباء المؤسسين لتخصص طب المسنين بكلية طب عين شمس وبمصر والدول العربية. الأباء المؤسسين الستة لتخصص طب المسنين بمصر (خمسة من طب عين شمس شكلوا مع أد عصام فكري من طب الإسكندرية التخصص في مصر)  الذين أرسوا قواعده ومهدوا الطريق لمن جاء بعدهم.

صور الآباء المؤسسين

الثلاثة أساتذة الدكاترة: معتصم - مرتجي - البانوبي

أد عاشور

أد صبور

كان طبيبا حكيما ينظر للمريض من كل الجوانب وليس من جانب الأمراض فقط، مثلا من النواحي الإقتصادية والإجتماعية ومسكنه ورعاته. وكنت أستغرب من حرصه على السؤال على علاجات السكر والكلى وغير ذلك، على غير عادة بعض الزملاء من طب الأعصاب، فيشغل نفسه بكل المشاكل الباطنية للمريض ويدبرها. ثم ما لبثت ان عرفت أن جيله تعلم الطب الباطني جيدا وحصلوا على دبلوم الطب الباطني مع دبلوم تخصصهم بحسب النظم القديمة للدراسات العليا. بجانب تمرسه من تخصصه الأصلي - طب الأعصاب- فقد حرص الدكتور البانوبي على تنمية جانب طب المسنين في ممارسته ومعرفته وذلك بالتعلم شرقا وغربا والإحتكاك مع الخبراء العالميين. فأصبح طبيب مسنين "أصيل" يراعي جلب المنافع ودفع الضرر بحكمة. وكغالب جيله كان عصاميا بنى نفسه بنفسه وعلم نفسه بنفسه.




كان الأول على دفعته بكلية الطب وإختار الإنضام بعد التخرج لقسم العصبية والنفسية وكان من أحد الناجحين والرواد الشباب في قسم طب الأعصاب والنفسية. ولكنه إنضم للوحدة الناشئة لطب المسنين التي شكلها المرحومين أد عاشور وأد صبور مع مجموعة من شباب المدرسين. جاؤوا في ذلك الوقت من قسم العصبية والنفسية (منهم المرحوم أد طارق أسعد) ومن قسم الباطنية (أد معتصم) ومن قسم الصحة العامة (أد مرتجي) وغيرهم. وقد عانت الوحدة صعوبات عدة في البداية ولكن أبحر بها د عاشور بنجاح في محيط عالي اللأمواج. إلا أنه قد إنفرط عقد بعض المنضمين للوحدة الفتية فعادوا لأقاسمهم الأولى (مثلا أد طارق أسعد). ولكن د البانوبي ترك الطريق السهل في قسمه الأصلي (رغم مكانته المتقدمة فيه ومستقبله المبشر الواضح فيه) وإختار البقاء في المولود الجديد ذي المستقبل المجهول "وحدة طب المسنين" مع من بقي وكان أحد أبطال طب المسنين (يحتاج تأسيس تخصص طب المسنين دائما لبطل وهو شخص يضحي ولا يجني ثمار). ربما يعكس ذلك إيمانه بالقضية وحبه للمغامرة والعطاء والحماس.



وإتخذ من قسم طب المسنين دارا وموطنا له.

كان مقداما فأقبل على المجهول بإنضمامه لوحدة طب المسنين وتخليه عن الواضح السهل بتركه لقسم العصبية والنفسية. وحضر من البداية إنشاء تخصص طب المسنين ووحدة طب المسنين وثابر. وتحمل الإبحار في البحر المجهول وخوض الأعاصير مع كل فريق الأوائل (رحمة الله على من توفى منهم). ولم يتراجع لقسمه الأصلي بل قام بتحويل قسم طب المسنين لقسمه الأصلي وبات موطنه وبيته. وإستلم الراية ممن سبقه. 
تحمل المسئولية كأول رئيس قسم لقسم طب المسنين بطب عين شمس بعد تحول وحدة طب المسنين لقسم أكاديمي. وكان وقتاً حرجا يتهدد التحول فقد خرج أد عاشور للمعاش. وحرص على نمو القسم وإزدهاره. وسلم الراية بأمان لمن تولى بعده. وكل ذلك مع كوكبة من المخلصين مثل أستاذ عمرو الأخصائي الإجتماعي والدكتور سيد الشوبري رحمة الله عليهم.

كان عهدي به دائما حماسيا، ومثابرا عالي الهمة، وملئ بالطاقة والمرح، يشعهم على من حوله. فلا يرفض السفر المتكرر بدون سابق إنذار لإجتماعات مكتب منظمة الصحة العالمية القديم بالإسكندرية ولا السفر للمحافظات لتدريب مقدمي رعاية المسنين على أسس التعامل مع الإشكاليات الصحية للمسنين. كان هينا ولينا وملجأ للغلابة والجمعيات الأهلية الغلبانة والهيئات الحكومية المنكسرة فلم يكسف أحد يوما ولا خيب أملا ولا رجاءا في أي دعوة لتحسين رعاية المسنين. فتجده يسافر الإسماعيلية رغم Short notice

وقد إعتبره الكثير من الناس أبا لهم. وإعتبره الكثير منهم أحد الأركان الشديدة التي كان يؤوي إليها الناس (بعد الله سبحانه وتعالى) لحل المشاكل وفي الشدائد. كان حمامة السلام لحل أي توترات بالقسم على كل المستويات. وتمتع بتسامح عالي مع الآخرين وإتساق مع الذات منحه الثقة بنفسه وثقة وإحترام الجميع.
تمتع بالمسئولية الإجتماعية منذ عصر مبكر فشارك في العديد من الجمعيات العلمية والخدمية مثلا كان عضوا بمجلس إدارة الجمعية المصرية لطب المسنين (صورة) وساهم في إرساء قواعد التخصص بمصر وبعين شمس. وساهم في تنفيذ دورات جليس المسنين مع جمعية تدعيم الأسرة. وغير ذلك.

محبوبا وخدوما للناس (صورة مؤتمر طب مسنين طنطا)
كان رقيق القلب يلاطف أطفال الأطباء والموظفين والمرضى. فكان لورد إبن بلد. وكان مرحا جدا ضحوكا ويحب المزاح، فكان يمنح الناس أسماء لطيفة وطريفة فكان يطلق على إحدى بناته الروحيات أنها "أبو الهول" وفسر قوله بأن أبو الهول صامد ومثابر في كل العصور وذلك لعطاءها وتفانيها لقضايا المسنين عبر كل العصور. وعن نفسي أؤمن أنه كان مزيجا فريدا من السمات الشخصية. فكان "لوردا بس إبن بلد" بحق وحقيق. رغم سفره بلدان كثيره وصعود نجمه في اللجان الدولية والوطنية، إلا أنه ظل دائما "إبن بلد" متواضعا دائما مع الجميع. ومتعه الله بفراسة ثاقبة وبصيرة نافذة تمكنه من فهم الشخصيات من أول لقاء ومع ذلك كان فطنا وكيسا في كل معاملاته. اللورد الأصيل موجود داخله وفي أخلاقه وتعاملاته ويكتم إبتلاءاته اومحنته عن الآخرين. ويرتدي الملابس الرسمية كاللورد الأنيق في المناسبات الرسمية فقط. ولكنه كان متواضعا باقي الوقت في كلامه وملبسه وغير متسلط. فكان إبن البلد السند وقت الشدة (مثل الإمتحانات وزنقات المرور على المرضى ومؤتمر القسم الإكلينيكي والنادي الأدبي للقسم) فيلطف الجو بمرح وتواضع.

كان قريبا من الجميع فيجلونه ولكنهم لا يرهبونه سواء داخل القسم أو خارجه، سواء في الإمتحان أو خارجه. وكان حريصا على مجاملة الجميع بجدية ويحضر كل المؤتمرات والتجمعات الإجتماعية مثل الإفطار الرمضاني متواجدا وسط الجميع بتواضع.
وقد مكنته شخصيته المرحة وتواضع إبن البلد وعلمه الغزير وخبراته المتراكمة من إكتساب ثقة وإحترام الجميع وتكوين علاقات متعددة سخرها لرعاية المسنين وتمكين الأجيال التالية. ونجح في تكوين فرق متعددة لمشاريع تحسين رعاية المسنين وقادها بنجاح لتحقيق أهدافها. مثلا في إصدار أول إستراتيجية لرعاية المسنين بمصر.



كان رجل علم نسمع إسمه يتردد خارج قسمنا في المؤتمرات والمحافل العلمية فنشعر بالفخر. عندما كنت والدكتورة نهى فريد في معهد الأمم المتحدة للمسنين بمالطا عام 2007 كان كل من يقابلنا ويعرف أننا من عين شمس، يقوم بسؤالنا على د عاشور ود البانوبي ويحملوننا السلام لهم. ونفس الشئ في طب القاهرة وحلوان وطب الإسكندرية وفي طب الأزهر وفي المركز القومي للبحوث الإجتماعية وأمانة الصحة النفسية ومنظمة الصحة العالمية.

وفد كون خبرة متميزة في رعاية المسنين بمصر وخارج مص، فبات خبيرا عالميا تطلبه الهيئات العالمية مثل منظمة الصحة العالمية التي وجدت في كنزا إستراتيجيا إستعانت به في عدة مشاريع إقليمية. وقام بفتح أفاق لتخصصنا كمثال في منظمة الصحة العالمية وقدم لهم الأجيال التالية له وحفزهم ودعمهم.

كان واثقا في نفسه بقوة ولم يستشعر تنافسا مع الآخرين. فلم يطمس جهود من سبقه بل بنى عليها وحافظ عليها قدر إستطاعته. وتعاون مع الآخرين للمصلحة العامة. ففي عهد رئاسته للقسم قام بتمكين أد معتصم عامر (وزملاء آخرون) ومساعدته ودعمه في إنشاء أول رعاية مركزة لطب المسنين في المنطقة. وكان إسمها في البداية وحدة الإعتمادية العالية High dependency unit وصارت بعد ذلك وحدة الرعاية المركزة لطب المسنين.


من القسم القديم قبل هدمه

لم يكن يقص شريط أو يسجل إسمه على لوحة رخامية، ولكنه كان حاضرا على أرض الواقع أثناء وجوده بالسلطة وبعد تركه لموقعه بالسلطة. وهذا إختبار عسير نجح فيه بإقتدار. فإستمر في عطاءه حتى بعد تركه رئاسة القسم وخروجه على المعاش، فساهم في سلاسة تطور القسم بحضوره مجالس القسم وحضور الإمتحانات وإستمراره في تعليم الأطباء ورعاية المرضى والقيام بدوره كحمامة للسلام.

وكان صاحب رؤية مستقبلية فقام بتتمكين قسم طب المسنين من أن يكون معتمدا على ذاته stand alone service في طب أعصاب المسنين بتأسيس وحدة لرسم المخ EEG التي ساعدت في تشخيص العديد من المرضى، ووحدة جلسات ضبط إيقاع المخ ECT إستفاد منها الكثير من المرضى مرضى الإكتئاب. وهو أنجح العلاجات لإكتئاب المسنين في العالم. كما أدخل عدة مقاييس نفسية لتشخيص مشاكل المسنين العقلية بدقة. وأظن أنه من أدخل جهاز قياس وظائف التنفس الذي خدم العديد من مرضى الجهاز التنفسي المسنين بقسمنا، وجهاز تقييم الإتزان الذي خدم المسنين في تقييم مشاكل السقوط والإتزان في عهده.

قاتل بجسارة للدفاع عن المرضى وحصولهم على حقوقهم وعن تخصصه وقسمه. فوقف لمن يحاول الإعتداء على قسمنا أو يحاول سلبه حق أو شرف هو أهل له، فنجح كثيرا وأحيانا كانت الموجة أعلى منه ولكنه لم ييأس. وكان مناصرا Advocator  للجميع. وكلنا نتذكر مروراته التعليمية بقسمنا على المرضى للتشخيص والعلاج وحرصه على حل مشكلات المرضى. وكان يحرص على تعليمنا أصول تقييم الجهاز العصبي والنفسي وضوابط مقاربة وتدبير الأمراض العصبية والنفسية، ثم التواجد بنفسه في إمتحانات العصبية والنفسية للماجستير والدكتوراة. وأزعم أن له الفضل في "مُكون مهارات طب الأعصاب" في قسمنا كله. وطبعا كان يحضر غالبية الإمتحانات الأخرى لطمئنة الأطباء وللقيام بدوره كحمامة للسلام.

في عهد رئاسته للقسم ترسخت الدرجات العلمية الناشئة في طب المسنين وهي الماجستير ثم الدكتوراة بقسمنا. التي صارت فيما بعد قدوة ونموذجا لنشوء درجات مماثلة بالجامعات المصرية الأخرى.

له أفضال شخصية على الجميع ومن ذلك على شخصي:
لما كنا نوابا قام بتعليمنا وتشجيعنا ورفع روحنا المعنوية بتبسمه وروحه المرحة. وحضر مناقشة رسالتي للماجستير في الصف الأول ولم يكن لا مشرفا ولا مناقشا، فلما تكرر نقد المناقش الخارجي وتكرر دفاعي عن الرسالة بحماس، طلب مني عدم الإستماع بدون رد. وكان ذلك الرأي الحكيم.
ويوم إمتحان العصبية والنفسية في الماجستير، كنت في رهبة شديدة وبمجرد حضوره ورؤيته، هدأت نفسي وفوجئت بدعمه بقوة لكل الطلاب في اللجنة.
وفي إمتحانات الدكتوراة كان حمامة السلام في تهدئة أي توتر.

كان رجل علم وأكاديمي من الطراز الأول وله إنتاجه العلمي، يحرص على النظرات الإستراتيجية والأبحاث التجميعية الموسوعية ولا يغرق نفسه في التفاصيل.

عطاءه إمتد في تأسيس وحدة رعاية المسنين في مستشفى طلبة حلوان والمشاركة في دعمها وتكوين كوادرها ودعم مؤتمراتها. وقام بتقديم ثاني مشروع لإنشاء معهد لعلوم المسنين بجامعة عين شمس ولكن بدون نجاح.

كان طبيب محترف عالي المهنية، فنجح في تأسيس عيادته الشخصية لطب الأعصاب ولطب المسنين. ونجح في البقاء في غابة ممارسة الطب بالسوق المصري لسنوات متعددة. وكانت عيادته بشارع شمبليون قبلة لمرضاه وطلبته.

حرص على إستمرارية الأنشطة العلمية التي بدأت وقت د عاشور ومنها العديد من المواسم العلمية والمؤتمرات والتبادل العلمي مع جامعة مينيسوتا الأمريكية.



وحرص على إيجاد الفرص التدريبية وإنتداب الأطباء بالأقسام المختلفة داخل مستشفانا وخارج مصر لتنمية خبراتهم العلمية وتوطين الخبرات بقسمنا. وحرص على إستمرار تنمية كل الفريق الصحي والموارد البشرية بالقسم. فساعد الزملاء من هيئة التمريض والتخصصات الأخرى بالقسم في الحصول على دراسات عليا في تخصصاتهم. وكان يؤمن بروح فريق رعاية المسنين متعدد التخصصات فقام بتوسعته مثلا بتعيين أخصائيين إجتماعيين في عهده.

حرص على تمكين الأجيال التي أتت بعده، ففتح لهم آفاق ممارسة طب المسنين في المستشفيات بمصر. وفتح آفاق علمية متعددة بترشيحهم في العديد من المؤتمرات والدورات ومشاريع تطوير الخدمات للجهات المحلية والإقليمية.

سافر لعدة دول عربية وأجنبية للإطلاع على خبراتها في رعاية المسنين وسافر كخبير لعدة دول لمشاركة خبراته. كما سافر كغالبية جيله لممارسة الطب في الدول العربية، ولحسن الحظ لم تخطفه "النداهة" (بريق الحياة السهلة في الدول العربية)، فعاد ليستمر في عطاءه للمرضى والأطباء والتخصص والقسم.


أؤمن انه كان قريبا من الله بنيته وعمله. ولذلك حباه الله بصيرة وفراسة وألقى في قلوب الجميع محبته في كل وقت. رغم رحيله إلا أنه قد ترك إبنته المحترمة الدكتورة شيرين البانوبي المدرس بالقسم، كما ترك أبناء وبنات كثيرون (إعتبروه أباهم الروحي العلمي). ورحل عنا في سلام بعد أن أدى رسالته في شهر رمضان 1441 مايوعام 2020.










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق